يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك.
مجموعة محاضرات ودروس عن رمضان
15597 مشاهدة
السلف وكثرة الصدقات حال صيامهم

وأما هديهم في الصدقات فقد عرف عنهم -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم كما مدحهم الله، مدح الله تعالى الصحابة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ونزلت هذه الآية في أحد الصحابة؛ في صحابي يقال له: أبو طلحة في قصته لما أنه أخذ ضيف النبي -صلى الله عليه وسلم- ليعشيه، فقال لامرأته: هل عندك من طعام؟ فقالت: ما عندي إلا عشاء صبيتي؛ فقال: نوِّميهم إذا طلبوا الطعام، ثم إذا جاء ضيفنا وبدأ يطعم فأطفئي السراج وأوهميه أنا نأكل. فقدموا إليه عشاءهم وعشاء صبيتهم، ثم أصبحوا وقد نزلت هذه الآية: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ولا شك أن هذا من الإيثار بما كانوا يجدونه، وقد عمل بذلك أيضا خلق كثير.
وفي الإيثار في هذا الشهر ذكر ابن رجب أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- إذا صام لا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله لم يتعش تلك الليلة، إذا منعوه أن يفطر مع المساكين. وكذلك ذُكر أنه طرق بابه مرة سائل فأخذ حظه من العشاء، وذهب به إلى السائل، وأعطاه السائل، ورجع إلى أهله وقد أكلوا بقية العشاء، فبات طاويا وأصبح صائما.
وكان كثير منهم يصومون تطوعا ويخفون صيامهم، فكان أحدهم إذا خرج إلى محل عمله ..حرفته أو نحوها خرج معه برغيفين، فأهله يعتقدون أنه أكلهما فيتصدق بهما، وأهل السوق يعتقدون أنه قد أكل في بيته، فيمسك نهاره ولا يشعر أحد أنه صائم، مخافة أن يفتخر بصيامه، أو أن يتمدح به.
وهكذا أيضا ذكر ابن رجب أن كثيرا من السلف كانوا يطعمون إخوانهم الحلوى وأنواع المأكولات الشهية وهم صيام، وكان أحدهم يقدم لتلامذته الطعام ويقف يُروِّحهم وهو صائم، وهم يأكلون، يروحهم يعني: يستعمل المروحة اليدوية عليهم، حتى لا يحسوا بحر في شدة الحر ونحوه، وكثير منهم إذا طرق الباب سائل وقال: من يقرض الولي الغني؟ يقول: عبده المعدم من الحسنات. فإذا خرج وأعطاه ما عنده بات طاويا.
هكذا كانت حالتهم في أنهم يتصدقون بما يقدرون عليه، يقول ابن رجب -رحمه الله- بعدما ساق هذه الأمثلة: سلام الله على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل:
نزلـوا بمكـة فـي قبائل هاشم
ونزلـت بـالبيداء أبعـد مــنزل
يمثل أن أهل زمانه بالنسبة إلى أولئك السلف رحمهم الله تعالى مثل من نزل بوسط مكة وبين بني هاشم، ومن نزل في البيداء أي: في المكان البعيد، البيداء التي تبعد عن مكة نحو ثلاثمائة كيلو أو مائتين؛ تلك البيداء، واستشهد أيضا مرة بقول الشاعر:
لا تعـرضن بذكرنـا عـن ذكرهـم
ليـس الصحيح إذا مشـى كالمقعـد
أي: لا تعرض بذكرنا عندهم فإننا لن ندركهم، هذا وهو في زمن ليس مثل زماننا، زماننا قد اشتدت فيه غربة الإسلام، وقل فيه من يقتدي بأولئك السلف الأعلام.
ولكن بكل حال لا نعدم -إن شاء الله- من يقتدي بقدر جهده بما أعطاه الله تعالى بأولئك السلف الصالح، سواء في أعمالهم المفروضة أو المستحبة أو ما أشبهها.